saad-sallom

ماذا قيل عن البهائية

مقالة للكاتب السيد سعد سلوم في جريدة المدى

الرابط الاصلي للمقالة هنا

ولد “حسين علي النوري” الملقّب بـ”بهاء الله”، في فترة فاصلة في تاريخ الشرق الأوسط، وكانت مبادئ الدين البهائي ركناً ملهماً من تراث الاصلاح والنهضة للشعوب العربية والإسلامية ومقاومة الاستبداد الذي ساد لقرون طويلة.


وكان الزعماء البهائيون مثل “بهاء الله” (1817-1892) مؤسس الدين البهائي و”عبد البهاء” (1844-1921) مفسر تعاليمه وخليفته، حلقة أساسية في سعي العقول الإصلاحية في تلك الفترة مثل “جمال الدين الافغاني” الشخصية الكاريزمية التي أمتد تأثيرها عبر الهند وافغانستان وإيران وتركيا ومصر وسائر بلدان العالم الإسلامي، و”عبد الرحمن الكواكبي” إبن سوريا، و المصريين “محمد عبده” و”رشيد رضا”، و”النائيني” في العراق وإيران، لاسترداد كرامة الإنسان في مواجهة الاستبداد.


وقد سبقت زمنياً طروحات الإصلاح البهائية، ما قدمه عبد الرحمن الكواكبي في “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” والنائيني في “تنبيه الأمة وتنزيه الملة”، إذ تضمن الكتاب الأقدس للبهائيين والرسالة المدنية لعبد البهاء دعوة إصلاحية للبلدان الإسلامية وللحضارة الإنسانية بشكل عام. هذا السعي الجدير بالتقدير يضع “بهاء الله” و”عبد البهاء” في طليعة دعاة الحداثة ورموز الإصلاح في الشرق الأوسط.


وبعد مئتي عام من ولادته، ما تزال مبادئ دين “بهاء الله” خميرة للإصلاح والتغيير لشعوب المنطقة بعد فشل وعود الدولة الوطنية في إنجاز الحداثة والتنمية وتحقيق العدالة الاجتماعية، وبوصلة لنموذج “مواطنة حاضنة للتنوع الثقافي” في عالم ما بعد الربيع العربي.


ولعل الاحتفال بالمئوية الثانية لولادة مؤسس الدين البهائي تصبح فرصة للأوساط المثقفة والأكاديمية في العالم العربي لإعادة قراءة التاريخ الحديث للشرق الأوسط من منظور يساعد في فهم سياق علاقة الدين والدولة في الفترة الفاصلة بين انهيار امبراطوريات الشرق الأوسط (القاجارية والعثمانية) ونشوء الدول الوطنية في إيران وتركيا والعراق وسوريا ومصر وبلدان أخرى، على خلفية من انبعاث الدعوات الاصلاحية في الشرق الأوسط، للانتقال من نمط الاستبداد السياسي إلى شكل من أشكال الحكم الديمقراطي أو التمثيلي.


ترتبط أهمية هذه المراجعة المئوية بالفشل الذي انتهى اليه صعود نظام عالمي لنشوء الدول في بدايات القرن العشرين أتسم بالعنف الداخلي والخارجي، وترتب عليه صعود ظاهرة القومية في الشرق الأوسط وبلورة “نموذج دولتي” يقوم على وهم التجانس الإثني والقومي، وبعد فشل هذا النموذج مع ثورات الربيع العربي وتحدي السلطة الأبوية من خلال تظاهرات الشباب والحركات النسائية والمجتمع المدني ومطالب الاقليات والنسوية.. إلخ. لا بد من التفكير في نموذج جديد أو “بديل” ملائم لتحديات العصر. وتصبح هذه المراجعة مهمة على نحو خاص في أزمنة المحنة التي تمر بها المنطقة في فترة ما بعد داعش، لا سيما بعد تدمير التنوع في كل من العراق وسوريا، وحالة الانسداد السياسي والانحطاط الثقافي والتفكك الاجتماعي، وفي ظل هوية نزاعية للمنطقة تحددها مخرجات الاستقطاب الطائفي السني/ الشيعي الذي أعقب عقوداً ضائعة من النزاع العربي الإسرائيلي.


قدمت مراجعة من هذا القبيل في الاجزاء الثلاثة من كتابي عن البهائيين في الشرق الأوسط، (سنوات التكوين، سنوات المحنة، سنوات التغيير). يتناول الجزء الأول سنوات التكوين للدولة/ الأمة التي تزامنت مع نشوء الدين البهائي وتطوره منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين. ويتضح من خلال البحث إن أفكار “بهاء الله” ومبادئ الدين الذي دعا لها، كانت قريبة من أفكار زعماء الإصلاح في الشرق الأوسط في كل من ايران ومصر وتركيا، بل، إنه مضى خطوة أكثر فعالية بتطبيقها من خلال إنشاء مؤسسات للحكم الديمقراطي لاتباعه “بيوت العدالة”، على جميع مستويات مناطق انتشار الدين البهائي في ايران، وأعرب عن أفكار ستظل مطلباً لجميع الدعوات الاصلاحية في العالم العربي في القرن الذي تلاها مثل : الفصل بين الدين والسياسة، التأييد الكامل للحرية الدينية، ضرورة التوافق بين الدين والعلم، والمساواة التامة بين الرجل والمرأة. وقد ترجم “عبد البهاء” الإبن الأكبر لبهاء الله ومفسر تعاليمه، هذه التعاليم الإصلاحية عبر خطبه ومؤلفاته ورسائله، لا سيما “الرسالة المدنية” التي تعد وثيقة أساسية قمت بتحليلها في الجزء الأول.


صحيح إن التعاليم البهائية وما ترسمه من خريطة طريق للإصلاح الاجتماعي والسياسي أتسمت بقواسم مشتركة مع دعوات وأفكار أصلاحية أخرى في الشرق الأوسط، لكنها ارتفعت مع البهائية الى مستوى عقيدة دينية حداثوية مع آثار عملية وسلوكية مباشرة على أتباعها، وكانت قابلة للنمو خلال العقود الماضية بما يتناسب مع السياق التطوري للأفكار الاجتماعية والسياسية في القرن العشرين، شاملة مجالات تتراوح بين الدعوة للدستورية وإرساء الديمقراطية إلى تعليم المرأة ومساواتها بالرجل والإصلاح الديني وفصل الدين عن السياسة وتحقيق العدالة الاجتماعية.
كانت الاتصالات والتفاعلات بين البهائيين والشخصيات الإصلاحية في كل من ايران وتركيا ومصر مثل محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، والعثمانيون الشباب والأتراك الشباب، والدبلوماسيون في الدولة الإيرانية القاجارية ووزراء السلطان العثماني تبّين انخراط البهائيين الفعّال في التاريخ السياسي للشرق الأوسط الحديث. إذ، لم تكن التعاليم البهائية منفصلة عن أفكار عصرها الإصلاحية، وليس القصد من طرح هذه الصلات بين الزعماء البهائيين ورواد الإصلاح في عصرهم إثبات تأثر الزعماء البهائيين بالأفكار الإصلاحية الرائجة في عصر النهضة نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، بمقدار ما تجدر الإشارة الى التزام البهائيين بتطبيقها منذ بداية دعوتهم الدينية وحتى اليوم من أجل تأسيس مجتمع جديد، وراهنيتها واهميتها للأزمنة المعاصرة، مثل فكرة السلام العالمي ونبذ التعصب الديني والمساواة بين الرجل والمرأة والتوفيق بين العلم والدين.. إلخ.
وهناك أدلة ظهرت في اعمال حديثة كما في مؤلفات “خوان كول” و”موجان مؤمن” و”نجاتي ألكان” و”أوليفر شابرودت” وكتاب “سهيل بشروئي” الأخير، على الاتصالات بين الزعماء البهائيين والعديد من الإصلاحيين البارزين في القرن التاسع عشر في العالم الإسلامي. واذا كان من الصعب تحديد مدى تأثير هذه الاتصالات على هؤلاء الإصلاحيين، ولكن عدم وجود إشارات جوهرية إلى البهائيين في أعمال هؤلاء، لا تؤخذ على أنها دليل على عدم وجود تأثير متبادل، إذ كان من الطبيعي في ظل وسط إسلامي تقليدي ومتزمت في كثير من الأحيان، أن لا يحرزوا أي نجاح في دعواتهم الاصلاحية إذا ما قرنوا افكارهم بالبهائية أو تحملوا عبئاً إضافياً بربطهم بدعوة دينية اضطهدت بقسوة وعدت خروجاً عن الإسلام، وسيظل هذا الخوف أحد المحددات الرئيسة لإخفاء جانب من تاريخنا المعاصر وإهماله على نحو متعمد، وبشكل بالغ القسوة أحياناً، كما يتضح في الأدب المناهض للبهائية الواسع الانتشار والمثير للغثيان. ولعل أول محاولة منهجية للتغطية على تأثير الأفكار البهائية قادها “رشيد رضا” صاحب مجلة “المنار”، فقد قلل من أهمية الصلات الوثيقة لإستاذه “محمد عبده” مع “عبد البهاء”، مقدماً صورة منقّحة من “محمد عبده” تتفق مع نهجه السلفي.
وكانت “الرسالة المدنية” التي كتبها “عبد البهاء” عام 1875، قد وضعت تعاليم “بهاء الله” في سياق أوسع لحركة الإصلاح الإيرانية، وفي مواجهة الاستبداد الذي ميّز حكم السلالة القاجارية في ثمانينيات القرن التاسع عشر. انخرط “عبد البهاء” الذي لم يتلق تعليماً تقليدياً (بسبب مرافقته رحلة نفي والده التي بدأت في بغداد 1853-1863 مروراً بأسطنبول 1863 وأدرنة 1863-1886 وانتهت في عكا 1886-1892) في نقاشات عصره في تركيا (فترة نفي أدرنة 1883-1886) وبيروت (حيث التقى محمد عبده 1887) ومن ثم في مصر (حيث خاض نقاشات مع أبرز المثقفين في عصره 1910-1913)، وكان متابعاً شغوفاً لكل ما يصل إليه من الصحافة المصرية والتركية، على سبيل المثال كانت تصله بانتظام في مكان نفيه في “عكا” دورية “العروة الوثقى” التي اصدرها “جمال الدين الأفغاني” من باريس بالتعاون مع “محمد عبده”.
تعد “الرسالة المدنية” مانفيستو (بيان) للإصلاح الاجتماعي والديني بهدف تجديد المجتمع الإسلامي، سبق زمنياً الكتابات الإصلاحية الشهيرة لرواد الحداثة في الشرق الأوسط من مسيحيي بلاد الشام أو مسلمي إيران وتركيا ومصر والعراق. وقد نشرت لكاتب مجهول الهوية في بومباي عام 1882، وتكمن اهميتها في كونها الكتاب الثاني الذي يطبعه البهائيون بعد كتاب “الإيقان” الذي كتبه بهاء الله في بغداد عام 1862.
في حين يوثّق الجزء الثاني من كتابي سنوات المحنة في علاقة البهائيين بالدولة في الشرق الأوسط، مسجلاً التاريخ غير المروي للبهائيين، بالاعتماد على شهادات ومقابلات أجريتها بين 2011-2017 مع كل من البهائيين في العراق ومصر والمغرب وتونس واليمن ولبنان والأردن وإيران والكويت وعمان. وقد حاولت تقديم صورة شاملة عنالاضطهاد المنهجي الذي تعرضوا له في ظل الجمهورية العربية المتحدة تحت قيادة “جمال عبد الناصر” بعد صدور قرار تحريم البهائية 1960 وفي المغرب 1962 وصدور حكم بالإعدام على معتنقي البهائية، مروراً بتجربتهم في ظل الحكم البعثي في العراق بعد صدور قرار تحريم البهائية 1970، وأخيراً مأساتهم في ظل ايران الثورة الاسلامية 1979. أما الاضطهاد الذي يواجهه بهائيو اليمن في السنوات الأخيرة، فيعد حلقة في تاريخ متواصل من الفشل الدولتي في الاعتراف بالتنوع الديني وعلامة على انحباس المجال العام وحصريته. وفي الواقع، دفعني عدم وجود دراسة مستقلة بالعربية او الأنكليزية توثّق هذا التاريخ، الى أختبار فرضية اقتبستها من هنتنغتون في كتابه “النظام السياسي لمجتمعات متغيرة” ساعدتني في تفسير التحول الدرامي الذي أصاب الدولة الوطنية نتيجة صعود أنظمة حكم عسكرية وإسلامية في الشرق الأوسط وتأثير ذلك على الأقليات الدينية بشكل عام والبهائيين بشكل خاص، ومن الجدير بالذكر، أنني خصصت تسع مقالات عام 2015 لرواية تاريخ الاضطهاد المنهجي للبهائيين العراقيين، وتسع مقالات أخرى عام 2017 عن محنتهم في بلدان الشرق الأوسط، نشرت تباعاً في صحيفة المدى.
أما الجزء الثالث من الكتاب، فيتناول سنوات التغيير التي أتاحت بعد الربيع العربي فرصة أمام البهائيين في أكثر من بلد عربي للإسهام في الحوار من أجل تطوير رؤية بديلة، وتعد رسالة البهائيين المصريين الى الشعب المصري وثيقة أساسية تعرض مثل هذه الرؤية بشأن مستقبل مصر ومثالاً لشعوب المنطقة، بعد ما يزيد على قرن من الوجود البهائي في مصر. وتشير الى أسهام البهائيين ً في الحوار من أجل مستقبل بلادهم من منطق خبرة المجتمعات البهائية في العالم.
واذا كانت الوثيقة قد قدمت المبادئ البهائية بوصفها بوصلة يمكن أن تمارس في توجيه الرؤية ووضوحها وسط التخبط الفكري وصراع المصالح السياسية والمادية، لكنها لم تهمل الاستفادة من خبرة التاريخ، إذ تشير الى أن “العالم زاخر بالقوى ذات المصالح الذاتية التي بإمكانها أن تمنعنا من تقرير مصيرنا أو تدعونا إلى التخلي عن هذه المسؤولية طواعية” وتضيف “ثم إنّ الاستعمار والتّزمّت الديني والحُكْم التسلطي والاستبداد السافر، لعب كلٌّ دوره في الماضي”، وتنصرف الوثيقة الى نقد الجانب المظلم من الحداثة في تحذيرها من إنه “ما تزال “القوة “الألطف” للنظام الاستهلاكي وما يتبنّاه من انحطاط أخلاقي، لقادرة بالمثل على إعاقة تقدمنا بذريعة جعلنا أكثر تمتُّعاً بالحرية المنشودة”. وفي هذا المنعطف التاريخي تطرح اسئلة أساسية تتمحور حول سؤال مركزي هو “هل لنا أن نتّجه نحو إقامة مجتمع فرداني ومجزأ، حيث يشعر الكل فيه بأنهم أحرار في السعي في سبيل مصالحهم حتى ولو كان ذلك على حساب الصالح العام؟”.
ثم تضبط الوثيقة “بوصلة الرؤية” بتأكيدها على ضرورة بدء عمليةٍ من الحوار والتشاور حول المبادئ الموجهة لإعادة بناء المجتمع، وتصل الى اهمية صياغة مجموعةٍ متجانسةٍ من المبادئ تنطوي على القوة الخلاّقة لتوحيده، ومن شأن ذلك بحسب الوثيقة “إطلاق طاقات بنّاءة ذاتية يعتمد عليها المستقبل من خلال حوار وطني عريض القاعدة يشترك فيه الناس على المستويات كافة ليشمل جذور المجتمع ويجتذب كلّ مواطن مهتمّ”. فضلاً عن أهمية ألاّ يتحول الحوار إلى نقاشٍ عن الجزئيات والمصالح الآنيّة، أو يُختصر إلى مجرد “إبرام الصفقات وإصدار القرارت لتقاسم السُّلطة من قبل نخبةٍ جديدةٍ تدّعي بأنّها الحكم الفاصل في تقرير مصيرنا ومستقبلنا”.
بعد مئتي عام على ولادته، يحتفل العالم بالرؤية البديلة التي قدمها “بهاء الله” عن السلام والروحانية المتسامحة، والتعاون العالمي، وحقوق الإنسان، وتمجيد العقل والعلم، والحكم البرلماني، والمساواة بين المرأة والرجل، وتنمية إمكانات المجتمعات والأشخاص في جميع أنحاء العالم. ويبقى تفضيل “بهاء الله” إنشاء اتحاد الأمم كوسيلة للقضاء على الحروب والنزاعات، فضلاً عن إنشاء لغة عالمية واحدة، مشتركاً نضالياً للمدافعين عن مواطنة عالمية ومصير مشترك للإنسانية. لم تعد هذه رؤية يوتوبية، بل خيار واقعي يمكن لنا جميعاً العمل من أجل تحقيقه.

شارك المقال عبر

Share on facebook
Share on twitter
Share on email
Share on telegram
Share on whatsapp